المعالجة النفسية سحر الشامي
مقدمة:
غالباً ما يترافق مع الحرب والصراع السياسي حالات الاختفاء الغامض، فينتج عن الحرب والعنف ما يُسمى ب "الفقدان الغامض"..
لا يمكن للمرء أن يعرف يقيناً ما إذا كان الشخص المحبوب ميتاً أم على قيد الحياة، يعاني من سكرات الموت أم يتعافى، غائباً أم حاضراً. ليس هناك فقط نقص في المعلومات فيما يتعلق بمكان وجود الشخص، بل لا يوجد أي نوع من التأكيد الرسمي أو المجتمعي على فقدان أي شيء ليس هناك شهادة وفاة، ولا مجلس عزاء، ولا جنازة، ولا جثة، ولا شيء لدفنه. اللايقين يجعل هذا النوع من الفقدان (الفقدان الغامض) الأكثر إيلاماً من بين جميع أنواع الفقد مما يؤدي الى أعراض مؤلمة ومستمرة..
كم من معتقل/ة يرقد في السجون!؟ كم من مختفٍ/ية قسرياً لا يعلم ذويه، إن كان على قيد الحياة أم ميت؟! كم من مخطوف/ة، وكم من غائب/ة بليلة ما فيها ضو قمر! خرج/ت ولم يعد؟؟!! يترك أهله وذويه في حالة من الضياع والتجمّد واللّوعة المعلّقة والتشتت.. هذا هو ما سنتحدث عنه في هذا المقال إنه "الفقدان الغامض"
ما هو الفقدان الغامض؟
عرفت الدكتورة بولين بوس Pauline Boss الفقدان الغامض في كتابها "الفقدان الغامض" بأنه خسارة غير واضحة مع عدم وجود التحقق الرسمي من الحياة أو الموت، وبالتالي، لا إغلاق. يحدث ذلك عندما يكون الشخص مفقودًا دون وضوح بشأن غيابه أو وجوده. الخسارة الغامضة هي أكثر أنواع الفقدان إرهاقًا لأنه لا يوجد دليل على النهاية.
الفقدان الغامض هو حالة من عدم اليقين بشأن مصير إنسان، قد يكون سبب هذا تعرّضُه للاعتقال، أو الاختطاف أو مرض عصبي أو عقلي يصيبه ويبقي جسده حياً من دون روحه وشخصيته. إنه فقدان غير منجز لا يستطيع من يختبره أن ينفيه ولا أن يسلم به ليسير الألم في مجراه ويعيش الإنسان مراحل الحداد.
أنواع الفقدان الغامض: (بوس،1999، ص41-45)
أشارت الدكتورة بولين بوس Pauline Boss الى نوعين من الفقدان الغامض:
النوع الأول: أن يكون الشخص غائباً جسدياً وحاضراً نفسياً: مثل المفقودين/ المعتقلين/ المخطوفين..
النوع الثاني: أن يكون الشخص حاضراً جسدياً وغائباً نفسياً/ عقلياً: مثل الأشخاص الذين يعانون من مرض الزهايمر أو الإدمان والأمراض العقلية المزمنة الأخرى..
في كلا النوعين من الفقدان الغامض، يتوجّب على من يعانون منه أن يتعاملوا مع شيء مختلف تماماً عن الفقدان الواضح. والفقدان العادي الأوضح هو الموت، وهو حدث منظم رسمياً يشمل شهادة وفاة ومراسم جنازة وطقوس دفن وقبراً...
في حالة الموت، يُجمع الكل على حدوث فقدان دائم، وأن الحداد يمكن أن يبدأ. الغالبية العظمى من الناس يتعاملون مع مثل هذا الفقدان بما يمكن أن نسميه -الحزن العادي- وهو الشكل الطبيعي للحزن، كما ذكر فرويد في عام 1971 في "الحداد والاكتئاب" " Mourning and Melancholia":
فإن هدف التعافي من الحزن الطبيعي هو التخلّي عن الروابط مع المحبوب وفي النهاية الاستثمار في علاقة جديدة. رغم إنها عملية شاقة إلا أنها تصل إلى نهاية، قلة من الناس يتفاعلون مع الموت بما دعاه فرويد "الكآبة المرضية" أو مايسميه المعالجون اليوم "اللوعة المعقدة".
تم تعريف اللوعة في معجم لسان العرب بأنها وجع القلب من المرض والحب والحزن، وقيل: هي حرقة الحزن والهوى والوجد.
لاعه الحبُّ يَلوعه لوعاً فلاعَ يَلاعُ والتاعَ فؤادُه أي احترق من الشوق. (معجم العرب)
أما في حالة الفقدان الغامض، يمكن أن تكون الكآبة أو اللوعة المعقدة، رد فعل طبيعي لموقف معقّد –مثل البحث المتواصل لأهل المفقود أو المعتقل على الصعيد السوري وعدم معرفة مصيره، هل هو حي أم متوفى؟! موجود هنا أم في مكان آخر أم أنه لم يعُد له وجود- إن استعصاء حل مثل هذا الفقدان الغامض يرجع إلى عوامل خارجية، وليس إلى عيوب في الشخصية.
والقوة الخارجية التي تجمّد اللوعة أو الحزن هي اللايقين وغموض الفقدان. لذلك لا ينبغي لأولئك الذين يُعانون من فقدانٍ غامضٍ أن يلوموا أنفسهم –أو غيرهم من أفراد الأسرة- على لوعتهم المجمّدة.
فالفقدان الغامض قد لا يسمح للناس أبداً أن يصلوا الى الانفصال الضروري للوصول إلى الخاتمة الطبيعية. فكما يعقّد الغموض الفقدان، فهو يعقّد عملية الحِداد. لا يمكن للناس أن يبدأوا بطقوس الحزن لأن الوضع غير محدد بعد، فهو فقدان، لكنه ليس فقداناً يقينياُ. يُجمّد الارتباك عملية الحزن ويهوي الناس من الأمل إلى اليأس ثم يعود الى الأمل وهكذا دواليك. وغالباً ما يبدأ الاكتئاب والقلق والأمراض الجسدية. بدايةً تؤثر هذه الأعراض على الأفراد، ولكنها يمكن أن تشيع لتؤثر على الأسرة بأكملها، عندما يتم تجاهلهم، أو في أسوأ الحالات، التخلّي عنهم. يمكن لأفراد الأسرة أن ينسحبوا تدريجياً من علاقاتهم فيما بينهم. وتتحول الأسرة إلى منظومة خاوية.
هل يعتبر الفقدان الغامض مرضا او اضطرابا نفسيا؟
تؤكد لنا الباحثة بوس (2006) أن الفقدان الغامض هو اضطراب في العلاقات، وليس خللا نفسيا. إنه نتيجة ظروف خارجية.
فالفقدان الغامض بحد ذاته ليس مرضا او اضطرابا نفسيا، ولكنه من الممكن (وليس من المفترض) كما تخبرنا بوس (1999) أن يسبب مشاكل شخصية وعائلية ليس بسبب عيوب ومشكلات نفسية عند أولئك الذين يعانون من الفقد، ولكن بسبب مواقف خارجة عن إرادتهم أو قيود خارجية تمنع عمليات التكيف والحزن.
فإن الخسارة الغامضة هي اضطراب في العلاقات، وليست خللًا نفسيًا. إنه نتيجة لضغوط خارجية.
إن العلاج القائم على الاعتراف بغموض الفقدان يطلق العنان للناي ليفهموا ويتكيفوا ويمضوا قدما بعد الفقد، حتى لو استمر الغموض.(ص38،39)
آثار الفقدان الغامض النفسية: (بوس، 1999، ص65،66)
كثيراً ما يسبّب الفقدان الغامض صدمةً، فأعراض اللّوعة المعلّقة تشبه أعراض اضطراب الشدّة ما بعد الصدمة (PTSD)
اضطراب الشدة ما بعد الصدمة هو اضطراب ناجم عن الأحداث الضاغطة نفسياً والتي تكون خارج نطاق الخبرة الانسانية المعتادة. هي أحداث لم يتم حلّها، وبالتالي تُعاش التجربة باستمرار، حتى بعد سنوات من الحدث الأصلي. الفقدان الغامض هو أيضاً حدث نفسي مؤلم خارج نطاق الخبرة الانسانية المعتادة تماماً مثل الأحداث التي تسبّب اضطراب الشدّة ما بعد الصدمة، كما أنه حدث صادم ويفتقد للوضوح. لكن مع الفقدان الغامض، تستمر الصدمة (الغموض) في التواجد في الحاضر، إنها لا تأتي "بعد" شيء.
الفقدان الغامض هو نموذج صادم ويُصيب بالعجز طويل الأمد، وليس حدثاً انتهى وتُستعاد ذكراه لاحقاً.
تتشابه نتائج اضطراب الشدة ما بعد الصدمة، إن لم تتطابق، مع نتائج الفقدان الغامض طويل الأجل. كلاهما يمكن أن يؤدي إلى:
- الاكتئاب
- القلق
- الخدر النفسي
- الأحلام المزعجة
- الشعور بالذنب
ما يتفرّد به الفقدان الغامض هو كون الصدمة تستمر وتتواصل فيما تصفه أسر المفقودين بركوب الأفعوانية (كناية الى الهبوط والارتفاع بشكل دائري ومستمر)، والتي يُراوحون خلالها بين الأمل واليأس. أحد الأحباء مفقود، ثم يعود (أو نسمع أخبارا عنه، أو يخرج أحد أصدقائه من المعتقل)، ثم يُفقد ثانية...
ما علاقة الفقدان الغامض باضطراب الكرب ما بعد الصدمة PTSD (بوس، 2006، ص167-170)
تمثل الخسارة المعقدة بسبب الغموض تحديًا جديدًا لمعظم المعالجين، ومع ذلك فهي حالة يعاني منها العديد من الأشخاص. وفي الواقع، فإن الخسارة الغامضة تستوفي معيار اضطراب ما بعد الصدمة باعتبارها تجربة تتجاوز النطاق الطبيعي للمعاناة الإنسانية. في DSM - IV - TR (الجمعية الأمريكية للطب النفسي، 2000)، يتم تقييم اضطراب ما بعد الصدمة وعلاجه أولاً باعتباره اضطرابًا نفسيا وثانيًا كمرض فردي. ومن ناحية أخرى، فإن الخسارة الغامضة هي اضطراب في العلاقات، وليست خللًا نفسيًا. إنه نتيجة لضغوط خارجية. ومع ذلك، قد تنتج أعراض فردية وعلائقية، مثل الاكتئاب والقلق والصراع والجسدنة. لكن السبب هو الغموض. وبالتالي يجب أن يشمل العلاج والتدخل إدارة الإجهاد جنبا إلى جنب مع النهج العلائقية والديناميكية النفسية. على عكس اضطراب ما بعد الصدمة، حيث يكون الحدث المؤلم قد انتهى ولكنه يعود إلى الوراء، فإن الخسارة الغامضة هي صدمة مستمرة. الاعتداء لا يتوقف أبدًا. ومع ذلك، على الرغم من أنهما ظاهرتان مختلفتان، فإن نتائج كل من اضطراب ما بعد الصدمة والخسارة الغامضة يمكن أن تشل العلاقات مدى الحياة وحتى تؤثر على الأجيال اللاحقة (بوس وآخرون، 2003).
حاليًا، يتم تطبيق تشخيص اضطراب ما بعد الصدمة لعلاج ضحايا التعذيب والاغتصاب والهجمات الإرهابية وحوادث الطائرات وإطلاق النار في المدارس والزلازل والأعاصير وإساءة معاملة الأطفال والضرب. يُستخدم علاج اضطراب ما بعد الصدمة أيضًا بشكل وقائي لتجنب إرهاق الرحمة من خلال دعم المتخصصين وفرق الحوادث الحرجة الذين يساعدون هؤلاء الضحايا تتم معظم علاجات اضطراب ما بعد الصدمة مع الأفراد، وليس مع العائلات. مثل هذا العلاج الفردي للصدمات لا يعالج ببساطة حاجة المرضى إلى العودة إلى منازلهم في نهاية المطاف وعيش حياتهم مع أسرهم والآخرين الحميمين. بطبيعة الحال، قد لا يكون من الممكن في بعض الأحيان العودة إلى ديارهم والعثور على أسرهم مرة أخرى، وبعد ذلك، كما حدث في جنوب آسيا بعد كارثة تسونامي عام 2004، فلابد من استخدام الأساليب القائمة على المجتمع. أفاد ووترز (2005) أن خبراء الصدمات الشرقية والغربية يفضلون الأساليب الأسرية والمجتمعية لمساعدة الناجين بعد جرف ما يقرب من 300000 من البالغين والأطفال. وقال بهافا بوديال، عالم النفس النيبالي، "إن المجتمع [في آتشيه] مترابط للغاية - متماسك وداعم ويحترم بعضه البعض. الجيران يعتنون ببعضهم البعض، وتتولى عائلات أخرى رعاية الأيتام” (ص 17). لكن بوديال "يشعر بالقلق من أن مجموعات الإغاثة قد "تسلب مرونة الناس، ومعانيهم، وتفرض نموذج اضطراب ما بعد الصدمة - وهو جديد وطبي بالنسبة لهم"" (ص 17).
أفاد نيل بوثبي من جامعة كولومبيا أن ووترز يؤيد قدرة الناس على العودة إلى ديارهم وإعادة بناء مجتمعاتهم وسبل عيشهم معًا. وقال بوثبي: "إذا كان لدى الصياد قارب يصطاد فيه السمك ويطعم أسرته، فسيكون لذلك أثر على الأداء الاجتماعي أكبر من أي تدخل في مجال الصحة HGKTSDM... إن ما يشفي الناس ويساعدهم على المضي قدماً هو التضامن والاعتماد المتبادل" (ووترز، 2005، 2005).(ص18).
على الرغم من التطبيق التقليدي لعلاج اضطراب ما بعد الصدمة هو فردي وطبي في المقام الأول، فقد قام العديد من الممارسين بتكييف مثل هذه العلاجات مع الأساليب المعتمدة على الأسرة والمجتمع (Boss et al., 2003; Landau & Saul, 2004; Sheinberg & Fraenkel, 2000). إنها مفيدة بشكل خاص عندما تكون الصدمة ناتجة عن فقدان العلاقات.
المرونة النفسية (بوس، 2006، ص١٩٣-١٩٤)
تفضل الباحثة بوس كما يفضل هيذرينجتون وبليكمان (1996) تعريف مصطلح المرونة بالإشارة إلى العملية والحركة بمرور الوقت. إن تعريفهم للمرونة لدى الأطفال والأسر موجز ومفيد لكل من المعالجين والباحثين: "تشير المرونة أو مقاومة الإجهاد أو المناعة إلى العمليات التي تعمل في وجود المخاطر لتحقيق نتائج جيدة أو أفضل من تلك التي يتم الحصول عليها في غياب خطر" (ص 14). في حين أن السياق المحيط بالشخص قد يؤثر على هذه العملية، فإن المرونة توفر البوتقة التي يصبح فيها الناس أقوى في الأوقات الصعبة وغير المؤكدة.
عرفت بوس المرونة النفسية انطلاقًا من منظور الإجهاد، على أنها القدرة على التمدد (مثل المطاط) أو الثني (مثل الجسر المعلق) استجابةً لضغوط الحياة وتوتراتها. يتضمن ذلك الضغط الناتج عن المتاعب اليومية بالإضافة إلى التحولات العائلية المتوقعة للدخول والخروج (مثل الولادة والوفاة) طوال فترة الحياة. ويشمل أيضًا التوتر والصدمات الناجمة عن الأزمات والكوارث غير المتوقعة. عندما تحدث الأزمة، يتم تعريف المرونة على أنها القدرة على استعادة مستوى يساوي مستوى الأداء السابق للأزمة أو لمستوى أعلى منه.. (ص190)
يمكنني تشبيه ذلك بشتلة الشجرة التي تنحني في وجه العاصفة بدل أن تنكسر ثم تستعيد توازنها السابق وتنمو وتتجاوز.
نموذج بوس للتعامل مع الفقدان الغامض:
اقترحت بولين بوس (1999) صاحبة نظرية الفقدان الغامض أو الخسارة الغامضة نموذجا سداسيا دائريا للتعامل مع الفقدان الغامض يشمل النقاط الست التالية:
- تطبيع الغموض.
- إتقان السيطرة.
- مراجعة التعلق.
- اكتشاف الأمل.
- إعادة بناء الهوية.
- إيجاد معنى.
وسنستعرض هذه المراحل بتفصيل أكثر في مقال لاحق في المنصة بعنوان (شرح نموذج بوس للتعامل مع الفقدان الغامض).
قائمة المراجع والمصادر:
د. بولين بوس(1999) "الفقدان الغامض، تعلم العيش مع لوعة معلقة"، الملتقى، ترجمة فريق من المخنتصين النفسيين، مراجعة وتقديم الدكتور النفسي مطاع بركات، الطبعة الأولى(2022).
B. Pauline, “Loss, Trauma, and Resilience Therapeutie Work with Ambiguous Loss,” Norton professional book, (2006)
A. Lazare, “The difference between sadness and depression,” Medical Insight, 2 (1970)
D. Reiss, The Family´s Reconstruction of Reality (Cambridge, Mass.: Havard University Press, 1981)
William F. Buckley´s interwiew with Mother Teresa (PBS, July 13, 1989)