تتعاقب الفصول على الأرض كما تتعاقب الحالات على النفس. فكما تُسقط الأشجار أوراقها خريفًا، تُسقط الأرواح شيئًا من بهجتها، وكما يحتشد الشتاء بالبرد والسكون، تحتشد القلوب بثقل لا يُرى، لكنه يُحسّ.
ليست الطبيعة وحدها من تتبدّل، بل نحن أيضًا نتبدل معها؛ يطول الليل، فيطول معه الصمت في دواخلنا، تقل ساعات الشمس، فتخفت إشراقاتنا الداخلية. بعض القلوب تصبح أكثر هشاشة، وأكثر استعدادًا للغرق في حزن موسمي صامت، لا يحتاج إلى أسباب واضحة، بل يكفيه غياب الضوء وتغيّر الهواء.
هذا ما يُعرف بالاكتئاب الموسمي، حيث تكون الروح على موعدٍ سنويّ مع الحزن، مع تغيّر الضوء والطقس والإيقاع الطبيعي للحياة.
في هذه المقالة، نفتح نافذة على هذا النوع من الاكتئاب، نحاول أن نفهمه، ونُضيء أركانه المعتمة، لعل في الفهم بداية للنجاة.
يعي أي شخص مر باكتئاب حاد - اكتئاب استمر لأسابيع أو شهورا أو أعوامًا - معنى الظلمة، وتشبه ظلمة الاكتئاب ظلمة الغيمة السوداء السميكة تلك الظلمة التي تجثم على الروح كالصخرة. وتشعر بأن هذه الظلمة كالعباءة التي تلفك في أطوائها وتحسها وتلمسها، وما إن تستقر داخلنا يصعب عليك التطلع إلى الأمام؛ حيث تجعل الظلمة أعيننا ضبابية وتجعل عقولنا غائمة؛ فيكون كل ما نشعر به في داخلنا هو الفراغ؛ فراغا مظلما لا نهاية له.
كلمة الاكتتاب غامضة في استعمالها الشائع، إذ تكشف عن معان عدة، تماماً مثل المرض نفسه الذي لا يسهل دوماً تعريفه أو التعرف إليه. فعوارضه قد تتداخل مع عوارض أمراض أخرى أو قد تعزى إلى الحزن أو الإجهاد، أو مشاكل النوم، أو التقدم في العمر، أو العمل المفرط.
يقول العديد من الأشخاص انهم مكتبون حين يشعرون بالحزن أو الوحدة أو الإحباط أو وهن العزيمة أنا مكتتب جدا، لدي الكثير من العمل الواجب إنجازه أخشى الا أنهيه أبداً. لكن مرض الاكتئاب الطبي يتعدى الشعور بالمزاج السيء أو المرور في فترة من الإجهاد. فالاكتئاب الحقيقي أو ما يسميه الأطباء غالباً المرض الاكتئابي أو الاكتئاب السريري- مختلف تماماً عن الحزن أو الياس العادي، فالمرض الاكتتابي، في شكله الأكثر شيوعا، يتميز بالآتي:
يدوم أسبوعين على الأقل، وربما أكثر في أغلب الأحيان.
يكشف عن عوارض محددة مرتبطة بالمزاج والسلوك والتفكير والمظهر الخارجي يعيق قدرتك على العمل بشكل يومي.
يتطلب معالجة طبية أو نفسية، أو الاثنتين على حد سواء.
تتميز الاضطرابات العاطفية الموسمية (SAD) بتزامن حدوثها مع فصول معينة في السنة، مثل الاضطرابات المرتبطة بفصل الشتاء، ويُعتقد أن قلة التعرض لضوء الشمس خلال هذا الفصل يُحرك هذا الاضطراب، الذي يميزه الخمول والنوم المفرط والرغبة الملحة في تناول الكربوهيدرات، مما يؤدي بالطبع إلى زيادة واضحة في الوزن.
الاكتئاب الموسمي أو "seasonal affective disorder SAD" هو نوع من أنواع الاكتئاب يحدث في الشتاء في حين يكون المزاج طبيعياً في الصيف. ومنذ العام 1984 حيث قدم هذا المرض وعرف لأول مرة في دراسة روزنثال (1984 Rosenthal et al)، حدث تقدم كبير في الأبحاث المتعلقة بموسمية بعض الأمراض والانتكاسات النفسية، وخصوصاً اضطرابات المزاج. وقد تناولت الدراسات أعراض المرض وانتشاره وأسبابه وطبيعته وأساليب العلاج بالضوء المستخدم لعلاجه.
يصاب بعض الأشخاص باضطراب الاكتئاب بشكل متكرر في نفس الوقت من العام. في بعض الحالات يعكس هذا التوقيت مطالب إضافية على الشخص في وقت معين من العام، وفي حالات أخرى لا يوجد مثل هذا الطلب الإضافي، وقد اقترح أن السبب مرتبط بتغيرات في الموسم، على سبيل المثال في طول ضوء النهار.
على الرغم من أن هذه الاضطرابات العاطفية تتميز بشكل أساسي بالموسم الذي تحدث فيه، إلا أنه يقال أيضاً أنها تتميز ببعض الأعراض التي تكون أقل شيوعاً في الاضطرابات العاطفية الأخرى، على سبيل المثال فرط النوم وزيادة الشهية مع الرغبة الشديدة في تناول الكربوهيدرات.
سارة فتاة في الثلاثين من عمرها، تعيش في مدينة ذات فصول شتاء طويلة وقصيرة الأيام. مع بداية الخريف، تبدأ سارة بالشعور بخمول غير معتاد وحزن عميق لا تقدر على تفسيره. تفقد رغبتها في الخروج أو التواصل مع أصدقائها، ويزداد نومها بشكل غير طبيعي مع شعور دائم بالتعب. تستمر هذه الحالة طوال فصل الشتاء، وعندما يحل الربيع، تتحسن حالتها تدريجيًا وتعود لطبيعتها. تكرر هذا النمط لمدة ثلاث سنوات متتالية، مما دفعها لطلب المساعدة الطبية، حيث تم تشخيصها بالاكتئاب الموسمي.
لتشخيص سارة باضطراب الاكتئاب الموسمي يجب أن تتوفر المعايير التالية حسب الدليل التشخيصي والإحصائي DSM-5:
حدوث نوبات اكتئاب كبرى متكررة:
تظهر نوبات الاكتئاب في وقت معين من السنة، غالبًا في الخريف أو الشتاء، وتتحسن الأعراض أو تختفي في بقية الفصول.
تكرار النمط الموسمي:
يجب أن تتكرر هذه النوبات الموسمية على مدى عامين متتاليين على الأقل.
غياب نوبات اكتئاب خارج الفترة الموسمية:
خلال نفس الفترة من السنة في الأعوام التي لم تعانِ فيها سارة من نوبة اكتئاب، لا توجد نوبات اكتئاب أخرى.
الأعراض تسبّب ضعفًا أو تعطلًا سريريًا واضحًا:
تؤثر الأعراض على حياة سارة الاجتماعية، المهنية، أو غيرها من مجالات الأداء بشكل ملحوظ.
استبعاد أسباب أخرى:
يجب التأكد من أن الأعراض ليست ناجمة عن عوامل أخرى مثل اضطراب تعاطي المخدرات، أمراض طبية، أو حالات نفسية أخرى.
حسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، لا يُصنف الاكتئاب الموسمي كاضطراب منفصل، بل يُعتبر نمطًا مميزًا (specifier) يظهر مع نوبة الاكتئاب الكبرى أو الاضطراب ثنائي القطب. لتشخيص الاكتئاب الموسمي، يجب أن تتوفر المعايير التالية:
(يجب توفر خمسة أعراض أو أكثر خلال أسبوعين على الأقل، وتضم إما المزاج المكتئب أو فقدان الاهتمام):
مزاج مكتئب أغلب اليوم، معظم الأيام.
فقدان الاهتمام أو المتعة في معظم الأنشطة.
تغير ملحوظ في الشهية أو الوزن (زيادة أو نقصان).
اضطرابات في النوم، إما الأرق أو فرط النوم.
شعور بالتعب أو فقدان الطاقة.
مشاعر الذنب المفرط أو انعدام القيمة.
صعوبة في التركيز أو اتخاذ القرارات.
أفكار متكررة عن الموت أو الانتحار.
تكرار نوبات الاكتئاب في نفس الفترة من السنة (عادة في فصل الخريف أو الشتاء) لمدة عامين متتاليين على الأقل.
تحسن أو اختفاء الأعراض في الفصول الأخرى (الربيع والصيف).
عدم وجود نوبات اكتئاب في أوقات أخرى خلال الأعوام التي لم تحدث فيها النوبات الموسمية.
استبعاد أسباب أخرى مثل الأمراض الطبية أو تأثيرات الأدوية.
فرط النوم (زيادة عدد ساعات النوم).
زيادة الشهية، خاصة للأطعمة الغنية بالسكريات والنشويات.
زيادة الوزن.
شعور بالخمول والتعب الشديد.
الميزة الأساسية هي بداية وهدأة نوبات الاكتئاب الجسيمة في أوقات مميزة من السنة. في معظم الحالات، تبدأ النوب في الخريف أو الشتاء وتهدأ في فصل الربيع. بشكل أقل شيوعاً، قد يكون هناك نوبات اكتئاب متكررة صيفية.
هذا النمط من بداية وهدأة النوب يجب أن يكون قد حدث خلال فترة لا تقل عن سنتين، ولم تحدث نوبات من نفس القطب ذات نمط لا فصلي خلال نفس السنتين. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تكون نوبات الاكتئاب الموسمية تفوق عدداً بشكل كبير أي نوبات اكتئاب لا فصلية على مدى عمر الفرد.
لا ينطبق هذا المحدد على تلك الحالات التي تُفسر بشكل أفضل من خلال الضغوطات النفسية والاجتماعية المرتبطة بالموسم (مثل البطالة الموسمية أو الجدول المدرسي). وغالباً ما تتميز نوبات الاكتئاب الجسيمة التي تحدث في نمط فصلي بطاقة بارزة فرط النوم، الإفراط في تناول الطعام، وزيادة الوزن، والرغبة في تناول الكربوهيدرات.
هل يرتبط انتشار الاكتئاب بالموقع الجغرافي للمنطقة؟
ينتشر الاكتئاب خاصة في الأماكن التى لا تظهر فيها الشمس وتعالج مثل هذه الحالات بالتعرض للضوء، وهى ظاهرة فى البلاد الشمالية الباردة. كذلك لوحظ انتشار الاكتئاب في بعض المواسم، خاصة مع بدء الربيع والصيف. ويبدو أن تغير الطقس له علاقة بتوازن الموصلات العصبية في المخ والهرمونات.
إن النجاح في علاج الاكتئاب وبغض النظر عن الأسلوب المستخدم في العلاج يتوقف على مدى رغبة المكتئب في التخلص من اكتئابه وعلى مدى مساندة الآخرين له ومساعدته على التخلص من اكتئابه. وعندما يتستر المكتئب على مرضه وتخلو البيئة التي يعيش فيها من عناصر الدعم والمساندة، فإن مشكلاته ستزداد ومعاناته ستتفاقم، وهو ما يدفعه إلى مزيد من العزلة والانسحاب.
فرغبة المكتئب في التخلص من اكتئابه ومساعدة الآخرين له تعتبر من العوامل الميسرة لسرعة الاستجابة للعلاج.
وهناك عدة طرق لعلاج الاكتئاب، لكن تحديد طريقة العلاج يعتمد على عدة عوامل منها:
تحديد نوع المشاعر: هل هي مجرد مشاعر تعبر عن الحزن الطبيعي أم اكتئاب أم اضطراب آخر من اضطرابات المزاج.
شدة الأعراض: بسيطة أم متوسطة أم شديدة.
مدة الأعراض: أيام أم أسابيع أم شهور أم سنوات.
المشاكل المصاحبة: هل الأعراض تدل على الاكتئاب أم أن هناك مشاكل أخرى مصاحبة كالقلق أو اضطرابات الشخصية.
المساندة الخارجية: هل هناك دعم نفسي واجتماعي من الأسرة أو الأصدقاء أو زملاء العمل؟
هل سبق معاناة الفرد لنفس الأعراض في فترة سابقة من حياته؟
هل هناك تاريخ مرضي في الأسرة؟
وبناء على العوامل السابقة يختار المعالج أو الأخصائي طريقة العلاج المناسبة للمكتئب.
إذا كنت مصابًا بالاكتئاب فلا تيئس؛ فإنك لست المريض الأوحد. فقد صرحت منظمة الصحة العالمية بأنه بحلول عام 2030 سيكون الاكتئاب هو المرض الأوسع انتشارًا على مستوى العالم.
وعلى الرغم من هذا الانتشار، يُعرف الاكتئاب باسم "القاتل الصامت"؛ لأن الخجل الذي يشعر به مرضى الاكتئاب كثيرًا ما يمنعهم من تلقي المساعدة اللازمة، لكن الأمور تغيرت، حيث أفادت المنظمة كذلك بأنه لم يعد الاكتئاب يُرى باعتباره "أنانية وتدللًا"، بل خطرًا حقيقيًا يهدد الصحة النفسية والعقلية والجسمانية، وهو ما يعيه تمامًا من عانوا الاكتئاب.
مزنوق، محمد صهيب. (2023). الاضطرابات النفسية. إدلب: منشورات جامعة إدلب.
ولبِرت، لويس. (2014). الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب (ترجمة عبلة عودة، مراجعة أحمد خريس). أبو ظبي: هيئة أبو ظبي للثقافة والسياحة.
غانم، محمد حسن. (2006). الاضطرابات النفسية والعقلية والسلوكية. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية.
مايو كلينك. (2002). حول الاكتئاب. الدار العربية للعلوم ومؤسسة مايو كلينك.
سرحان، وليد، الخطيب، جمال، و حباشنة، محمد. (2008). الاكتئاب. عمان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.
سرحان، وليد، الخطيب، جمال، و حباشنة، محمد. (2001). الاكتئاب. عمان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.
ماسي، أليكساندرا. (2018). تغلب على الاكتئاب بسرعة: 10 خطوات لتصبح شخصاً أسعد. الرياض: مكتبة جرير.
الدليل التشخيصي الخامس للاضطرابات النفسية DSM-5، ترجمة الدكتور أنور الحمادي.
عكاشة، أحمد. (2008). الاكتئاب مرض العصر: أسبابه وأنواعه وعلاجه. القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر.