في عالم يزداد فيه التركيز على المظاهر الجسدية والمقاييس المثالية للجمال، يعاني البعض من معركة خفية لا تراها العيون، معركة داخلية مع صورتهم الذاتية. اضطراب تشوه صورة الجسد (Body Dysmorphic Disorder, BDD) هو حالة نفسية معقدة يتميز بانشغال مفرط بالعيوب المتصورة في المظهر، سواء كانت حقيقية أم وهمية، مما يؤدي إلى ضغوط نفسية كبيرة وتأثيرات واسعة على الحياة الاجتماعية والمهنية للفرد.
هذا الاضطراب ليس مجرد انشغال سطحي بالمظهر، بل هو تجربة نفسية متشابكة تجمع بين العوامل البيولوجية، النفسية، والاجتماعية. فالمراهقون، على سبيل المثال، أكثر عرضة للشعور بعدم الرضا عن أجسادهم نتيجة التغيرات السريعة والمقارنات الاجتماعية، بينما قد يلجأ البالغون إلى سلوكيات تعويضية مثل عمليات التجميل أو العزلة الاجتماعية.
تهدف هذه المقالة إلى تقديم تحليل شامل لاضطراب تشوه صورة الجسد، بدءًا من تعريفه، مرورًا بأسبابه، أشكاله، الأعراض، والتشخيص، وصولًا إلى الآثار وطرق العلاج، لضمان فهم عميق ودقيق لهذا الاضطراب النفسي الذي يؤثر على ملايين الأفراد حول العالم.
تعد صورة الجسد التصور الذهني للفرد حول مظهر جسده، إضافة إلى المشاعر المرتبطة بهذه الصورة سواء كانت إيجابية أو سلبية. وتشمل صورة الجسد تصورات حول حجم الأعضاء وشكلها، وجاذبيتها مقارنة بالمعايير الثقافية والاجتماعية المستمدة من الأسرة، الأقران، ووسائل الإعلام.
ويعرف اضطراب تشوه صورة الجسد بأنه انشغال مفرط وغير واقعي بعيوب متخيلة أو طفيفة في المظهر الجسدي، وهو يؤدي إلى شعور شديد بالضيق النفسي ويعطل الأداء الاجتماعي والمهني. وقد يشمل الانشغال بمظهر الوجه أو الجسم ككل، وقد يتركز في جزء معين، مثل الأنف أو العضلات.
يتسم المصابون بالاضطراب بـ:
التفكير القهري بالعيوب، حتى وإن لم يلاحظها الآخرون.
السلوكيات التعويضية، مثل استخدام المكياج بشكل مفرط أو عمليات التجميل غير الضرورية.
التجنب الاجتماعي، لتفادي الكشف عن العيب المتخيل أمام الآخرين.
يمكن تقسيم الأشكال إلى:
توهم سوء شكل العضلات (Muscle Dysmorphia): شائع لدى الذكور، يعتقد المصاب أن جسمه ضعيف وغير معضل.
اضطراب تشوه الجسد بالوكالة: الانشغال بعيوب متخيلة في الآخرين المقربين (كالطفل أو الزوجة).
شعور بعدم التناسق: مثل اختلاف حجم العينين أو النمش على الخدود.
كره المظهر الكلي: الانشغال بالقبح العام في جميع أجزاء الجسم.
تشبيه الذات بالحيوانات أو الشخصيات الخيالية: كالإحساس بأن الشخص يبدو كالديك أو الغوريلا.
الخوف من المستقبل: القلق من زيادة العيوب مع الزمن مثل الصلع أو التجاعيد.
الإحساس بوجود خلل عضوي: الشعور بأن جزء معين من الجسم ضعيف أو معيب رغم سلامته الفعلية.
يلعب تصور الفرد لجسده دورًا رئيسيًا في تحديد سلوكه ومعتقداته الذاتية، حيث يؤثر بشكل مباشر على شعوره بالثقة بالنفس أو الإحباط. ويظهر هذا التأثير جليًا لدى المراهقين، الذين يكونون في مرحلة حرجة من النمو الجسدي والنفسي، حيث يركزون اهتمامهم على التغيرات الجسدية الطارئة ويبدؤون بتكوين معتقدات حول الكمال أو القبول الاجتماعي.
تشير الأبحاث إلى أن اضطراب تشوه صورة الجسد ينشأ من تفاعل مجموعة من العوامل:
العوامل البيولوجية:
هناك أدلة على دور الوراثة والاختلالات في الكيمياء الدماغية، خاصة في مسارات السيروتونين، والتي قد تجعل الفرد أكثر عرضة للانشغال بالمظهر.
العوامل الوراثية:
تزيد من احتمالية الإصابة
الاختلالات الكيميائية العصبية:
مثل الخلل في السيروتونين والدوبامين.
العوامل النفسية:
تشمل الانخفاض في تقدير الذات، النقد الأسري أو الاجتماعي المكثف، التجارب السلبية المتعلقة بالمظهر، والشعور بالعجز أو القلق المفرط.
العوامل الاجتماعية والثقافية:
تعرض الفرد للمعايير المثالية للجمال عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يعزز الرغبة في الامتثال لمثل هذه المعايير، ما يزيد من الانشغال بالعيوب الجسدية المتصورة.
المقارنة الاجتماعية، رؤية الجسم وفق معايير غير واقعية.
الثقافة والإعلام، عرض معايير الجمال المثالية بشكل مستمر.
العوامل المعرفية:
الأفكار اللاعقلانية حول الكمال الجسدي. الانتباه الانتقائي للعيوب.
يمتاز اضطراب تشوه صورة الجسد بمجموعة من الأعراض الإكلينيكية الواضحة التي تؤثر على الصحة النفسية والسلوك اليومي للفرد:
الانشغال المستمر بالمظهر الجسدي: يقضي الفرد ساعات طويلة في التفكير بالعيوب المتصورة، مثل شكل الوجه أو الجلد أو أي جزء من الجسم.
السلوكيات التكرارية المرتبطة بالمظهر: تشمل فحص الجسم بشكل مفرط في المرآة، التحقق من المظهر عبر الصور، أو طلب الطمأنة من الآخرين حول الشكل.
محاولات تصحيح العيوب: اللجوء إلى المكياج، مستحضرات التجميل، أو الإجراءات الجراحية المتكررة لتغيير أو تحسين العيوب المتصورة.
الآثار النفسية: القلق المستمر، الاكتئاب، الانسحاب الاجتماعي، الشعور بالعار والخجل، وربما التفكير في الانتحار في الحالات الشديدة.
التأثير على الحياة اليومية: ضعف الأداء في العمل أو الدراسة، صعوبة في العلاقات الاجتماعية، وتجنب المواقف التي قد تكشف عن العيب المتصور.
وفقًا لدليل التشخيص والإحصاء للاضطرابات النفسية – الإصدار الخامس (DSM-5)، يتم تشخيص اضطراب تشوه صورة الجسد عندما تتوفر الشروط التالية:
انشغال مفرط بعيب جسدي متصور أو عيب بسيط جدًا غير ملحوظ للآخرين.
قيام الفرد بسلوكيات متكررة مرتبطة بالمظهر، مثل الفحص المستمر للمرآة أو محاولة تحسين العيوب بشكل متكرر، أو السلوكيات المقابلة في الحالات الشديدة.
الاضطراب يسبب ضيقًا شديدًا أو ضعفًا في الأداء الاجتماعي أو المهني أو غيره من مجالات الحياة المهمة.
تفسير الاضطراب لا يمكن عزوه لأعراض اضطراب آخر، مثل فقدان الوزن في اضطرابات الأكل أو أعراض مرض نفسي آخر.
يُشير DSM-5 أيضًا إلى أن التعرف المبكر على الأعراض يمكن أن يسهم بشكل كبير في منع تفاقم الاضطراب وتحسين النتائج العلاجية.
الآثار النفسية: الاكتئاب، القلق، انخفاض تقدير الذات.
الآثار الاجتماعية: العزلة، صعوبة العلاقات، تجنب التفاعل الاجتماعي.
الآثار الجسدية: الإدمان على المكياج، السلوكيات المدمرة، عمليات التجميل غير الضرورية.
النظريات البيولوجية والعصبية
توضح الدراسات أن العوامل الوراثية والبيولوجية تؤثر في تكوين صورة الجسد، بما في ذلك الخلل في الدوبامين والسيروتونين الذي قد يزيد من احتمالية الإصابة بالاضطراب. كما أن اختلالات المخ يمكن أن تسبب ضعفًا في التذكر والترميز العصبي، ما يؤثر على إدراك الفرد لجسده.
النظريات المعرفية السلوكية
ترى هذه النظريات أن اضطراب تشوه صورة الجسد ينشأ من تفاعل العوامل المعرفية والانفعالية والسلوكية والثقافية، خاصة خلال فترة المراهقة حين يلاحظ الفرد التغيرات الجسدية ويقارن نفسه بالآخرين. ويؤدي الانتباه الانتقائي للعيوب إلى أفكار مشوهة حول الكمال الجسدي، تتسبب في القلق والخجل المستمر.
نظرية التحليل النفسي
ترى المدرسة التحليلية أن الاضطراب يمثل تعبيرًا لاشعوريًا عن عقدة نقص أو صراعات جنسية وانفعالية، حيث يركز الفرد على جزء من جسده كرمز لمشكلة أعمق. كما أن مراحل النمو الجنسي لدى الطفل، بدءًا من المرحلة الفموية وحتى مرحلة البلوغ، تؤثر في تطوير صورة الجسد.
يتطلب علاج اضطراب تشوه صورة الجسد اتباع نهج متعدد الأبعاد يجمع بين العلاج النفسي، والعلاج الدوائي، والعلاج السلوكي المعرفي، وأحيانًا التدخلات الجماعية أو الأسرية لضمان معالجة العوامل النفسية والسلوكية والاجتماعية المرتبطة بالاضطراب.
أحد أهم الأساليب المستخدمة هو العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، والذي يركز على تعديل الأفكار والمعتقدات المشوهة حول الجسم، ويشمل تقنيات التعرض ومنع الاستجابة، حيث يتعرض المريض لمواقف تثير قلقه حول مظهره مع منعه من القيام بسلوكيات قهرية كالفحص المستمر للجسد أو طلب الطمأنة، بهدف كسر دورة التفكير السلبي والتقليل من الانشغال المفرط بالمظهر الخارجي.
بالإضافة إلى ذلك، يُستخدم العلاج النفسي الديناميكي والتحليلي للتعمق في الأسباب اللاواعية التي تؤدي إلى الانشغال بالجسد، مثل صراعات الطفولة، الشعور بالنقص أو الذنب، والمعتقدات السلبية عن الذات.
في بعض الحالات، قد يكون العلاج الدوائي جزءًا من خطة العلاج، خصوصًا عندما يكون هناك أعراض مرتبطة بالوسواس القهري أو القلق المصاحب لتشوه صورة الجسد.
كما يمكن أن يلعب العلاج الجماعي أو الأسري دورًا داعمًا، إذ يوفر بيئة تفاعلية للفرد لتبادل الخبرات ومواجهة الضغوط الاجتماعية المتعلقة بالمظهر.
اضطراب تشوه صورة الجسد يمثل تحديًا نفسيًا معقدًا يجمع بين الانشغال بالمظهر، القلق النفسي، والتأثيرات الاجتماعية والسلوكية. الفهم الدقيق للأعراض والتشخيص المبكر وفق DSM-5 هو الخطوة الأولى نحو تقديم العلاج النفسي الملائم وتحسين جودة حياة الأفراد المتأثرين.
أبو عجاج، يونس منصور. (2017). أعراض اضطراب تشوّه صورة الجسد وعلاقتها بتقدير الذات واضطراب الشخصية الحدّية لدى عينة من البدناء (رسالة ماجستير). جامعة عمان الأهلية، عمادة الدراسات العليا والبحث العلمي.
http://search.mandumah.com/Record/995258
الحاسي، دينا أمجد خليل. (2023). اضطراب تشوّه صورة الجسد وتقدير الجسد وعلاقته بإيذاء الذات لدى عينة من المراجعين في عيادات التجميل (رسالة ماجستير). جامعة عمان الأهلية، كلية الآداب والعلوم.
http://search.mandumah.com/Record/1386808
الحمدان، يسرى علي محمد. (2019). مشكلات الأكل وعلاقتها بوسواس تشوّه صورة الجسد لدى المراهقات في محافظة جرش (رسالة ماجستير). الجامعة الأردنية، كلية الدراسات العليا.
http://search.mandumah.com/Record/1409806
ربابعة، أحمد حسن عبده. (2025). أفكار اللاعقلانية كمتنبئ بأعراض اضطراب تشوّه صورة الجسد لدى الأشخاص ذوي اضطرابات الأكل (رسالة ماجستير). جامعة عمان الأهلية، كلية الآداب والعلوم.
http://search.mandumah.com/Record/1612003
عبادات، هديل محمد أحمد. (2015). السمات الشخصية المتغذية باضطراب تشوّه صورة الجسد لدى عينة من مراجعي عيادات التجميل في جدة (رسالة ماجستير). جامعة عمان الأهلية، كلية الآداب والعلوم.
http://search.mandumah.com/Record/996407
. American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (5th ed.). American Psychiatric Publishing.
. Crerand, C. E., Franklin, M. E., & Sarwer, D. B. (2007). Body dysmorphic disorder and cosmetic surgery. Body Image, 4(4), 333–340.
https://doi.org/10.1016/j.bodyim.2007.08.002
. Fang, Y., & Li, H. (2020). Social media exposure and body dissatisfaction: The role of cultural standards. Journal of Health Psychology, 25(7), 925–936.
https://doi.org/10.1177/1359105318756956
. Fiske, A., Fallon, B. J., & Veale, D. (2014). Cognitive interventions for body dysmorphic disorder: A review. Clinical Psychology Review, 34(6), 1–15.
. . Munton, A. (2023). Irrational thoughts as predictors of body dysmorphic disorder symptoms in eating disorders (master's thesis). Amman Arab University, Jordan.
http://search.mandumah.com/Record/1612003
. Phillips, K. A., McElroy, S. L., & Keck, P. E. (2002).Pharmacologic treatment of body dysmorphic disorder. Journal of Clinical Psychiatry, 63(3), 242–248.
. Rosen, J. C., Reiter, J., & Orosan, P. (1995). Cognitive-behavioral body image therapy for body dysmorphic disorder. Journal of Consulting and Clinical Psychology, 63(2), 263–269.
. Tiggemann, M.(2004). Body image across the adult lifespan: Stability and change. Body Image, 1(1), 29–41.
. Veale, D. (2004). Advances in a cognitive behavioural model of body dysmorphic disorder. Body Image, 1(1), 113–125
. Veale, D., & Gournay, K. (1996). Body dysmorphic disorder: A clinical review. British Journal of Psychiatry, 169(5), 485–495.
https://doi.org/10.1192/bjp.169.4.485
. Veale, D., Gournay, K., Dryden, W., Boocock, A., Willson, R., & Walburn, J. (2016). Body dysmorphic disorder: A cognitive-behavioural model and pilot randomised controlled trial. Behaviour Research and Therapy, 44(5), 591–607.